المقاطعة الاقتصادية (*)
http://www.saaid.net/mktarat/qatea/5.htm
د. خالد بن عبدالله بن دايل الشمراني
استاذ الفقه المساعد ورئيس قسم القضاء بكلية الشريعة
والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ وبعد.
تعريف المقاطعة الاقتصادية:
الامتناع عن معاملة الآخر اقتصادياً وفق نظامٍ جماعي مرسوم بهدف الضغط عليه لتغيير سياسته تجاه قضية من القضايا.
نماذج من صور المقاطعة الاقتصادية عبر التاريخ:
لقد زخر التاريخ الإنساني على مَرْ العصور، بالكثير من الأمثلة والصور التي استُخدِم فيها سلاح المقاطعة الاقتصادية كوسيلة من وسائل الضغط، لإخضاع الطرف الآخر، وفيما يلي عرضٌ موجز لبعض هذه الأمثلة:
1 – ائتمار قريش واتفاقهم، على مقاطعة بني هاشم، وبني عبدالمطلب، وذلك بألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، وقد استمرت هذه المقاطعة سنتين أو ثلاثاً (1).
2 – ما فعله ثمامة بن أثال _رضي الله عنه_ بعدما أسلم، حيث قال لكفار قريش: "والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي _صلى الله عليه وسلم_"(2).
3 – في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وفي إبان حركة تحرير إيرلندا ضد السيطرة الإنجليزية، امتنع حلف الفلاحين، من التعامل مع وكيل أحد اللوردات الإنجليز من أصحاب الإقطاعات الزراعية في إيرلندا(3).
4 – في عام 1921م، أصدر حزب الوفد المصري، بعد اعتقال رئيسه سعد زغلول قراراً بالمقاطعة الشاملة ضد الإنجليز، وشمل قرار المقاطعة حث المصريين على سحب ودائعهم من المصارف الإنجليزية، وحث التجار المصريين على أن يُحتّموا على عملائهم في الخارج ألا يشحنوا بضائعهم على سفنٍ إنجليزية، كما أوجب القرار مقاطعة التجار الإنجليز بشكل تام(4).
5 – بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م) امتنع كثير من الناس في أوربا من شراء البضائع المصنعة في ألمانيا، بسبب احتلالها لبلادهم(5).
6 – ما دعا إليه الزعيم الهندي غاندي، من مقاطعة البضائع الأجنبية بإحراقها علناً في بومباي ضمن سلسلة من أعمال الاحتجاج ضد الاستعمار البريطاني للهند(6).
7 – قاطع السود في مدينة مونتجمري بولاية ألباما نظام سير الحافلات المدينة، مما قضى على سياسة الفصل الاجتماعي داخل الحافلات منذ الستينات(7).
8 – ومن صور المقاطعة الاقتصادية رفض المستهلكين في بلدان عديدة، منذ مطلع الستينات حتى أوائل التسعينات في القرن العشرين؛ شراء بضائع من جنوب إفريقيا؛ احتجاجاً على سياسة التفرقة العنصرية(8).
9 – ومن أمثلة المقاطعة الاقتصادية، أن معظم الدول العربية كانت تقاطع إسرائيل بسبب احتلالها لأرض فلسطين المسلمة(9).
10 – ما قام به الملك فيصل _رحمه الله_ من استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية بشكل مؤثر، في أعقاب حرب 1967م وحرب 1973م، فبعد يومين من نشوب الحرب الأولى، أعلن حظر البترول السعودي عن بريطانيا والولايات المتحدة، وعلى إثر نشوب حرب 1973م تزعم حركة الحظر البترولي الذي شمل دول الخليج، فكان لهذا الحظر أثره في توجيه المعركة(10).
مدى اندراج المقاطعة الاقتصادية تحت الجهاد في سبيل الله:
الجهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء(11).
وجاءت كلمة الجهاد في القرآن الكريم والسنة النبوية، بمعانٍ ودرجات مختلفة، نجملها فيما يلي(12):
1 – الجهاد بالنفس: وهو قتال الكفار بالنفس، وكل ما يتعين عليه، من بيان فضله، والتحريض عليه، والإخبار بعورات العدو، وما يعلمه من مكايد الحرب. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، سيأتي ذكر بعضها عند الكلام على مقاصد الجهاد.
2 – الجهاد بالقول: وهو يشمل مجاهدة الكفار والمنافقين، بالحجة والبرهان، قال _تعالى_: "وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً" (الفرقان: من الآية52)، أي بالقرآن. ويشمل أيضاً الصدع بالحق عند الحكام الظلمة، قال _صلى الله عليه وسلم_: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"(13).
3 – الجهاد بالمال: ويكون على وجهين:
أحدهما: إنفاق المال في إعداد السلاح وآلة الجهاد والزاد وما جرى مجراه مما يحتاجه لنفسه.
الثاني: إنفاق المال على غيره ممن يجاهد، ومعونته بالزاد والعدة، قال _تعالى_: "وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (التوبة: من الآية41)
4 – الجهاد بالعمل: وذلك ببذل الجهد في عمل الخير، ليكون نفعه عائداً على صاحبه بالاستقامة والصلاح، كما في قوله _تعالى_: "وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ" (العنكبوت: من الآية6).
5 – الجهاد بالقلب: وذلك ببغض المنكر وكراهيته بالقلب، قال _صلى الله عليه وسلم_: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(14).
وأما تعريف الجهاد في الاصطلاح الفقهي:
فقد نص الفقهاء في أغلب كتبهم على أن الجهاد يطلق على مجاهدة النفس والشيطان والفساق والمنافقين. ولكنه عند الإطلاق ينصرف إلى قتال الكفار لإعلائه كلمة الله(15).
ولهذا قال العلامة ابن رشد: "كل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أطلق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"(16).
وبناءً على ما سبق فإن المقاطعة الاقتصادية تدخل في مفهوم الجهاد بمعناه العام، نظراً لما تتضمنه من إتعاب النفس بحرمانها من بعض المكاسب والملذات، وذلك من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة المستضعفين من المسلمين.
كما أن المقاطعة الاقتصادية تعتبر من ضروب الجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى، ذلك أنه قد سبق معنا أن من معاني الجهاد في السنة المطهرة جهاد القلب وذلك ببغض المنكر وكراهيته، وذلك في قوله _صلى الله عليه وسلم_: "ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن"(17)، فسمى النبي _صلى الله عليه وسلم_ هذا الفعل القلبي جهاداً، ومن المعلوم أن المقاطعة الاقتصادية بنية التقرب إلى الله ونصرة المستضعفين من المسلمين، وإلحاق الضرر بالكفار، يتضمن جهاد القلب، وزيادةً تتمثل في ترك التعامل معهم فيما يعود عليهم بالنفع.
المقاطعة الاقتصادية تحقق مقاصد الجهاد في سبيل الله:
مما لا شك فيه أن سلاح المال والاقتصاد من أشد الأسلحة مضاءً وتأثيراً في هذا العصر، كما أن العامل الاقتصادي هو مِنْ بين العوامل المهمة التي تدفع الأمم إلى مكان الصدارة على الساحة الدولية. والمكانة المهمة التي تتسنمها دولتان مثل: اليابان وألمانيا؛ بسبب القوة الاقتصادية لكل منهما، لأكبر دليل على ما ذكرنا، فقد خرجت هاتان الدولتان من الحرب العالمية الثانية وهما مثقلتان بهزيمة فادحة ودمار واسع، ومع ذلك فقد استعادت هاتان الدولتان مكانتهما على المسرح الدولي بفضل ما تتمتعان به من تقدم تقني وقوة اقتصادية.
وفي المقابل لدينا أنموج الاتحاد السوفييتي الذي كان في يوم من الأيام أحد القطبين المهيمنين على الساحة الدولية، بما يملكه من جيوش جرارة وترسانة نووية وتقليدية ضخمة، ومع ذلك فسرعان ما انهار ذلك المارد لأسباب من أهمها ضعفه الاقتصادي، فتراجع نفوذه في العالم وانكفأ على نفسه.
كل ما سبق يبين لنا أن القوة الاقتصادية من العوامل الرئيسية لرقي الأمم وازدهارها، كما أن المساس بالعامل الاقتصادي، أو محاولة زعزعته وإضعافه، يعد اعتداءً خطيراً على حياة الأمم واستقرارها.
ومن هنا تأتي أهمية الكلام عن المقاطعة الاقتصادية، كسلاحٍ من أسلحة الردع والمقاومة.
وما استخدام سلاح النفط في وجه أمريكا عامي 1967 – 1973م، ما ترتّب عليه من آثار وتداعيات، إلا مثالاً بسيطاً على أهمية هذا السلاح، وما يمكن أن يوقعه بالأعداء من خسائر لا يستهان بها.
وقد كانت المقاطعة العربية لإسرائيل تبهض كاهل الدولة الصهيونية وتلحق باقتصادها خسائر فادحة.
وأخيراً.. وبعد الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة ضد الممارسات الصهيونية العدوانية، وما رافق ذلك من انحياز أمريكي سافر لليهود، وما ترتب على ذلك من إلهابٍ لمشاعر المسلمين في كل مكان في العالم؛ استجاب كثير من المسلمين، لدعوات المقاطعة الاقتصادية التي رفع شعارها بعض علماء المسلمين، والكثير من اللجان الشعبية والنقابات المهنية ولجان مقاومة التطبيع مع الصهاينة، والتي تدعو إلى مقاطعة كل ما هو إسرائيلي أو أمريكي من البضائع، مما ترتب عليه انخفاض في أرباح الشركات الأمريكية بنسبة بلغت 20% في دولة كمصر، مما اضطر تلك الشركات إلى تنظيم حملات دعائية لتحسين صورتها لدى الجماهير، وإثبات اهتمامها بالقضايا العربية والإسلامية بصفة عامة وحرصها على الحقوق الفلسطينية بصفة خاصة، حيث أعلنت تلك الشركات، عن تبرعها بجزء من أرباحها لدعم الانتفاضة الفلسطينية(18).
هذه النماذج وغيرها كثير، تبين لنا بجلاء أن المقاطعة الاقتصادية سلاح فعّال ضد الأعداء، وأنها محققة بلا ريب لجملة من مقاصد الجهاد في سبيل الله من إرهاب الكفار وإيهان كيدهم وإذلالهم، وأنا وسيلة لتحقيق مقصد مشروع.
وهذا كُلُّه كاف في إضفاء المشروعية عليها، واعتبارها ضرباً من ضروب الجهاد في سبيل الله، إذا كانت بنية التقرب إلى الله تعالى ونصرة قضايا الإسلام والمستضعفين من المسلمين.
وقد يعترض معترضٌ على اعتبار المقاطعة الاقتصادية ضرباً من ضروب الجهاد في سبيل الله؛ بأن الجهاد فعلٌ إيجابي، والمقاطعة الاقتصادية تركٌ وامتناع. وهذا غير مشكل للآتي:
1 – أن المقاطعة الاقتصادية جهادٌ بالقلب وزيادة، تتمثل في الامتناع عن التعامل مع الكفار فيما يعود عليهم بالنفع.
2 – أن الترك والامتناع يعتبر فعلاً على الصحيح من قولي الأصوليين(19)، والله أعلم.
علاقة المقاطعة الاقتصادية باعتبار المصلحة ودرء المفسدة:
تظهر العلاقة بين المقاطعة الاقتصادية، وقاعدة: اعتبار المصلحة ودرء المفسدة، في أن المقاطعة الاقتصادية، ضربٌ من ضروب الجهاد – كما تقدم معنا – وأنها تحقق بعض مقاصده، من الإضرار بالكفار وإغاظتهم، وأنها وسيلة من وسائل الضغط عليهم يمكن أن تدفعهم إلى التراجع عن ظلمهم وطغيانهم، أو على الأقل تخفف من هذا الظلم والطغيان، وهي بذلك تحقق مصلحة كبرى يجب أن تراعى وتعتبر.
وتحقيق المقاطعة الاقتصادية لما سبق من المصالح المعتبرة، هو أمر أغلبي، قد يتخلف في بعض الأحيان تبعاً لظروف الزمان والمكان ولذلك ينبغي لنا عند النظر في موضوع المقاطعة الاقتصادية كسلاح من أسلحة الردع والضغط، أن نستصحب فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، على ما سبق تقريره، إذ قد يترتب على المقاطعة الاقتصادية تفويت مصلحة أكبر من المصلحة التي يراد تحقيقها، أو ارتكاب مفسدة أكبر من المفسدة التي يراد دفعها وهذا خلاف مقصود الشارع: من جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وسيأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة – إن شاء الله – عند الكلام على الحكم التكليفي للمقاطعة الاقتصادية.
قاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد وعلاقتها بالمقاطعة الاقتصادية:
قال الراغب: الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبةٍ وهي أخص من الوصيلة، لتضمنها لمعنى الرغبة(20).
فالوسائل: هي الأفعال التي يوصل بها إلى تحقيق المقاصد(21). والمراد بالمقاصد هنا: المصالح والمفاسد.
والمقاصد: هي المعاني والحكم ونحوها التي راعاها الشارع في التشريع عموماً وخصوصاً، من أجل تحقيق مصالح العباد(22).
وإن الناظر في طبيعة عقود المعاملات المالية ليتضح له بجلاء أنها ليست مقصودة لذاتها وإنما لكونها وسيلةً موصلةً إلى ما يحتاجه الإنسان من أعيان ومنافع، وبالتالي فهي من باب الوسائل.
قال ابن قدامة في بيان الحكمة من مشروعية البيع: "لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي شرع البيع وتجويزه شرع طريقٍ إلى وصول كل من المتعاقدين إلى غرضه ودفع حاجته"(23).
أقسام الوسائل وعلاقتها بالمقاطعة الاقتصادية:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن الوسائل تنقسم بالنظر إلى ما تفضي إليه من مصلحة أو مفسدة، إلى أربعة أقسام(24):
القسم الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وهذا القسم جاءت الشريعة بمنعه.
القسم الثاني: وسيلة موضوعة للمباح، قُصِد بها التوسل إلى المفسدة، كمن يعقد النكاح قاصداً به التحليل.
القسم الثالث: وسيلة موضوعة للمباح، لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، كمن يسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم.
والقسمان الثاني والثالث محرمان أيضاً، من أوجه كثيرة أوصلها الإمام ابن القيم إلى تسعة وتسعين وجهاً.
القسم الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها، كالنظر إلى المخطوبة وكلمة الحق عند سلطان جائر.
وهذا القسم مباح أو مستحب أو واجب بحسب درجته في المصلحة.