أشار تقرير نشرته الأحد الماضي مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات لشهر فبراير عن ارتفاع كلفة المعيشة ارتفاعًا طفيفًا، ما يجعل نسبة التضخم (الارتفاع العام للأسعار) في حدود 7%، مقارنة بـ 11% السنة الماضية. ويخوض التقرير في تفصيل سلة السلع والخدمات المكونة للرقم القياسي لكلفة المعيشة، ثم يطمئننا أن لا مخاوف من تضخم مستقبلي مفاجئ في ظل الأزمة المالية العالمية. السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم يشعر المواطن بأثر هذا الارتفاع الطفيف، بل يشعر دومًا بوطأته؟ لماذا لم نلاحظ ذلك في الأسواق، في السلع الغذائية كالألبان والدواجن والأرز، في الدواء والماء والكهرباء، وكذلك الإيجارات، بل في معظم ما نستهلكه؟
أتجاوز الحديث عن مدى تأثرنا بالأزمة المالية العالمية، وقد كتبتُ وغيري عنها مرارًا، ولكن يبدو أن لنا خصوصية تحول دون تأثرنا بها، أتجاوز كذلك الحديث عن تضخم مستقبلي مرتبط بتلك الأزمة التي لم تعد مالية وحسب، بل اقتصادية سياسية بامتياز. أتساءل اليوم عن عدم الشعور بانخفاض الأسعار، وهذا ليس رأي المستهلكين فقط، بل تصوّروا، حتى الغرف التجارية، غرف رعاية مصالح التجار، شعرت به، غرفة تجارة جدة، مثلاً، أعلنت عن دراسة تعدها لجنتها التجارية لمعرفة أسباب عدم انخفاض أسعار بعض السلع لدينا برغم تراجعها في الأسواق العالمية (الرياض الاقتصادي، 7/3/2009م) وآمل أن نقرأ قريبًا نتائج هذه الدراسة قبل توصياتها، آمل أكثر أن تتواصل مثل هذه الدراسات، ومن جهات أخرى أكثر قربًا من المستهلك، وأن تتم بكثير من الشفافية حتى يطّلع جمهور المستهلكين على معوقات ومشاكل انخفاض الأسعار، بعد أن تعرّفوا، بل اكتووا بنار ارتفاعها بحجة ترابط الأسواق عالميًّا، ويبدو أن هذا الترابط عالمي في حالة الارتفاع، ومحلي في حالة الانخفاض، فلماذا ومَن يحمي المستهلك من هكذا تداعيات؟
تذكرون ما نُشر قبل فترة عن إنشاء مؤسسة لحماية المستهلك، ولا أعلم هل انتهت «إجراءات» الإنشاء، وهل بدأت في مزاولة أعمالها، أم أنها ما زالت مشروعًا على ورق؟ بحثت عن أخبارها فلم أجد، كنتُ أبحث عنها بعد كل ارتفاع للأسعار، سواء قبل أم بعد الأزمة المالية العالمية فلم أجد، وقد يكون تقصيرًا مني، غير أني مازلت أذكر النقاش الذي صاحب خبر الإنشاء حول مرجعيتها، هل ستكون مؤسسة رسمية تابعة لوزارة التجارة، أم الأفضل أن تكون جمعية مستقلة ذات سلطات ملزمة؟ رأي ثالث حبّذ حصر أعمالها في الجانب التوعوي فقط، بنشر ثقافة الاستهلاك بين المواطنين، كمفهوم السلع البديلة والتحكم في الأذواق والرغبات والتهديد بالمقاطعة، وهناك مَن جزم أنه بدون مراقبي أسواق أكثر عددًا لا يمكن ضبط السوق، وبالتالي حماية المستهلك، ويبدو أن كل ذلك النقاش انتهى دونما نتيجة.
حماية المستهلك، كما لا شك تدركون، عمل لا يمكن حصره في مجال الأسعار، ولا أعتقد بتعارضه مع فكرة حرية السوق وحرية الاقتصاد المدعاة من قِبل بعض التجار، لا يتعارض كذلك مع مبدأ التسعير، فإن استبعد التسعير لمحاذير شرعية مختلف عليها، فالاحتكار، وهو أهم مبررات التسعير، مجمع علي كراهته شرعًا، إن لم يكن تحريمه. مبدأ حماية المستهلك له أكثر من مجال، فبجانب مراقبة الأسعار، هناك الغش التجاري بكل أنواعه، كالتدليس في نوعية ودرجة جودة السلع، أو تخزينها وتصريف السيئ ومنتهي الصلاحية منها، أو إخفاء معلومات هامة، أو حتى أولية عن السلعة، أو تقديم معلومات مغلوطة، بكلمة مختصرة كل ما يتعارض مع كراسة المواصفات والمقاييس المعتمدة رسميًّا، فمَن الملام هنا، وزارة التجارة أم هيئة المواصفات، أم سيوزع دم المستهلك بين القبائل؟
حرية الاقتصاد حجة واهية، ففي أعتي الاقتصادات حريةً هناك منظمات ترعى وتحمي مصالح المستهلكين، هناك قوانين تنظم العلاقة بين الطرفين، التاجر والمستهلك، ولا تتركها لتقلّبات السوق، فمعظم هذه التقلبات إن لم تكن مصطنعة، فهي من النوع الذي يمكن التحكم فيه بأدوات متاحة وتستخدمها معظم الدول التي يتمتع مواطنوها بدرجة حماية معقولة للمستهلكين، هناك وعي عام منتشر ضد الاستغلال مُفسد المجتمعات، هناك خطوط للفقر وحدود للأجر الأدنى، وللأسف نحن نأخذ العنوان «حماية المستهلك» ونترك باقي الكتاب المتضمن آليات التفعيل. حرية الاقتصاد لا تعني حرية التسعير، فإذا كان الحاكم هنا هو السوق عن طريق العرض والطلب، فطالب السنة الأولى في الاقتصاد يعرف كيف تحدث تقلبات السوق وكيفية التلاعب على مرونة منحنيي العرض والطلب، يعرف درجات الاحتكار التي تنعدم فيها الحرية، يعرف ما يعنيه الدعم الحكومي وما تعنيه القوانين الملزمة.
الآن من الجهة الأحق بإجراء دراسة عن ظاهرة عدم انخفاض الأسعار محليًّا، غرف التجارة، بيت التجار المدافع عن حقوقهم ومصالحهم، أم وزارة التجارة قلعة المواطن المدافعة عن حقوقه ومصالحه؟ فإذا وقفت الوزارة مع التجار وساندت مؤسسة النقد والبنوك فمن سيقف مع المستهلك؟ كم مرة سألت الوزارة عن حقوق هذا المستهلك المسكين، وتذكرون مطالباتها بسرعة صرف إعانات التجار عن السلع المدعومة، فهل تحكمت هي في أسعار هذه السلع؟ كم مرة كُشف خارجيًّا عن مواد غذائية مسرطنة، حليب أطفال، ومعاجين أسنان وشامبو، تصل أسواقنا بسرعة البرق بينما يصل التحذير منها متأخرًا وتسحب من أسواقنا متأخرًا جدًا، كم مرة تظهر عيوب خطرة في بعض السلع، مقابس الكهرباء غير المطابقة للمواصفات مثلاً، فيُمنح مستوردوها عامًا لتصريف بضاعتهم، على من؟ على المستهلك المفترض حمايته لا تعريض حياته للخطر بمواد وسلع قد تحوّله من مستهلِك، بكسر اللام، إلى مستهلَك، بفتحها، فقليلاً من الحماية يا وزارة التجارة، وكثيرًا من العناية يا هيئة المواصفات.
http://al-madina.com/node/117176