التجارة الدولية ترفع الكارت الأحمر للمنتجات الملوثة
كتب ـ وجدي رياض
صرخة مدوية أطلقتها سيدة منذ50 عاما قلبت الدنيا رأسا علي عقب وجلبت مفردات لم نتداولها ولم نعرفها من قبل. الصرخة جاءت من السيدة' راشيل كارسون' عندما أصدرت كتابا يحمل عنوانا صارخا رغم دسامة مادته وحلاوة أسلوبه.
عنوان الكتاب كان' الربيع الصامت'. المغزي من وراء الكتاب أن الربيع عندما يهل بجمال أشجاره, وأزهاره عندما تتفتح فإنه سيكون صامتا بلا عزف من الطيور بعد أن تهجر أوكارها وتموت تسمما تحت جذوع الأشجار, والسبب هو تلك المبيدات السامة والقاتلة التي تفترش الحقول وتقتات عليها الطيور وحيوانات الحقل طعامها المضمور بالمبيدات, ويسري السم الزعاف في جسدها الهش وتموت الزقزقة.
كانت هذه الصرخة بمثابة طلقة دوت أصداءها في المجتمع الدولي وبزغت شمس ثقافة جديدة اسمها البيئة. استمع العالم إلي كلمات كارسون وهي تكشف بواقعية شديدة النقاب عن اسم مبيد حشري مخيف هو' د.د.ت' وهو سام ومسرطن أيضا. هرع العلماء إلي الحقول ودرسوا وحللوا وناقشوا. كانوا متربصين لكلمات كارسون ويستعدون لذبحها أمام المشهد الدولي. ولكن سموم المبيد باحت بما هو أخطر وهنا رفعوا القبعة احتراما لها.
8 سنوات مرت علي نداء كارسون قبل أن تسرع الأمم المتحدة إلي عقد أول مؤتمر من نوعه تحت شعار' مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية' في استوكهولم في.1972 ومنذ هذا التاريخ والعالم مهموم بقضية البيئة وحشد العلماء رصيدهم من الأبحاث في الغرب. أما هنا في الشرق كان خبراء دول العالم الثالث متفرجين, ولم يلمسوا الأبعاد البيئية لأن النهضة الصناعية في دول العالم الأول سبقت العالم النامي وظهرت آثاره الجانبية الشرسة بملوثاتها الخطيرة. ومرت20 عاما, والعالم يغط في نوم عميق وجاء عام1992 ودفعت الأمم المتحدة بمؤتمرها الثاني في' ريو دي جانيرو' بالبرازيل تحت شعار' مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية'. وجاءت التنمية مرادفة للبيئة وهو بعد اقتصادي جديد علي مسمع العالم, وفاجأ علماء العالم وفود196 دولة بما اتخذوه من قرارات ونفذوه من أعمال, وسارع المشرعون لوضع القوانين لضبط إيقاع البيئة.
هنا بات العالم منقسما إلي جزءين متعاكسين. الجزء الأول يشير إلي شعوب الدول الصناعية الغنية التي رتبت نظامها وطردت الصناعات الملوثة إلي حظيرة العالم الثالث, وأصبح النشاط برمته يخضع للقوانين الصارمة التي تنبذ التلوث. وبحسبة بسيطة أصبحت تكاليف إزالة التلوث من الصناعات مثل الأسمنت والسيراميك أكثر تكلفة من استيراد هذه المنتجات.
أما الجزء الثاني فهو شعوب العالم الثالث التي تحولت إلي' مكبات' للصناعات الملوثة, ولم تستوعب الدرس لأن التشريعات غير موجودة ولم تسن بعد, ولا توجد قوانين ولوائح تنفيذية ودراسات للأثر البيئي تحد من جموح التلوث. وعلي سبيل المثال لا الحصر فقد أكدت دراسة لانبعاثات التلوث من صناعة الأسمنت في منطقة حلوان أن الانبعاثات الضارة بلغت4000 جزء في المليون في سماء حلوان بينما اللوائح تنص علي ألا يزيد علي50 جزء!
ولم تكتف دول العالم الأول بطرد الصناعات الملوثة للبيئة من أراضيها, بل وضعت تشريعات تحتم عدم استيراد منتجات ملوثة للبيئة, ووضعت قواعد صارمة بألا يتم استيراد منتجات من مؤسسات تقوم بتشغيل الصبية, ولا تستورد من مصانع تعمل علي تشغيل المرأة في دوريات ليلية. وهنا أفاقت دول العالم الثالث من غفوتها, وحاصرت التلوث, وسارعت إلي دول العالم الأول تطلب المشورة في صياغة قوانين تحكم النشاط المنفلت من البشر.
وروجت الدول الأوروبية اتجاها يهدف إلي تسويق المنتجات الزراعية العضوية( أي المنتجات الزراعية التي لا يستخدم في إنتاجها أي مبيدات أو أسمدة كيماوية) وهو ما يطلق عليه الإنتاج الحيوي أو النظيف, وتكونت اتحادات أوروبية من المزارعين المتخصصين في الزراعة العضوية, وأثمر عن اتحاد دولي يتولي الإشراف علي سلامة اجراءات انتاج المنتجات الزراعية وتسويقها.
ولم يعد الأمر مقصورا علي المنتج الغذائي فحسب بل تعداه إلي السيارات مثلا. هنا يفضل أن تكون منتجة بإسلوب يحافظ علي البيئة, وتكون مصنوعة من مواد يمكن تدويرها, وأن يكون المصنع حريصا علي إعادة تدوير مخلفاته, ويقلل من استخدامه الخامات والمياه والطاقة وألا تنبعث من جهاز خروج العادم أي انبعاثات تلوث الهواء مثل ثاني اكسيد الكربون والكبريتات والنيتروجينيات والضوضاء والأكثر من هذا تفضل البضاعة المنتجة في إحدي المحميات الطبيعية أي تتبع الراءات الثلاث
Reuse,Reduce,Recycle
ويحتم المستورد الأوروبي أن يحمل المنتج بطاقة خضراءGreenlabelorEcolabel
حتي يطمئن المستهلك ويميز هذه البضاعة عن غيرها بسهولة بعد أن تطور إقبال المستهلك الأوروبي علي المنتج صديق البيئة وأصبح مستعدا لدفع17% زيادة في الثمن طالما تحمل هذه البطاقة.
وفي تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في مجال الزراعة ورد بيان لمنظمة' أجريميد' حول بلوغ قيمة ما صدرته مصر من هذه المنتجات300 مليون دولار في عام.2004 وعزز تقرير هولندي آخر أن مصر لديها امكانية زيادة معدلات صادراتها إذا التزمت بمعايير النوعية لأسواق الاتحاد الأوروبي ورفعت من مستوي نوعية المنتجات, والأرقام تبوح بأن هناك142 مليون مستهلك لمنتجات الزراعة العضوية في أوروبا تقدر قيمة مشترواتهم بنحو92 بليون دولار, منها29 بليونا في بريطانيا, وفي أمريكا بلغت مشترياتهم6,10 بليون دولار, وفي منطقة المحيط الهادي واستراليا ونيوزلندا بلغت تسعة بلايين دولار, واليابان5,1 بليون دولار. وتتلقي بريطانيا منتجات عضوية من60 دولة في العالم النامي وفي مقدمتها البرازيل والمكسيك وسريلانكا.
عندما سألوا المستهلك الأوروبي لماذا يفضل المنتج العضوي؟ كانت الإجابة الخوف من المبيدات والقلق من الكائنات المحورة وراثيا, والتلوث, والحرص علي الغذاء الآمن.هكذا كان وعي المواطن الأوروبي واستعداده لدفع ثمن أعلي من أجل هذه الاعتبارات. ويرجع سبب زيادة سعر المنتج العضوي إلي أن الشركات المنتجة للأغذية الحيوية مطالبة بأن تصدر تقريرا سنويا عن أدائها البيئي والأخلاقي, بالإضافة إلي تقاريرها السنوية للجوانب المالية والاقتصادية.
من هنا أصبح لا مفر من الخضوع لاشتراطات الأسواق الدولية التي فطنت إلي خطورتها علي صحة المواطن لأنها تحمل له الأمراض إذا كانت مزروعة بغطاء من المبيدات, وتضرب بيد من حديد علي أي منتج يدخل دون بطاقة خضراء أو البطاقة البيئية, وهي جواز السفر من أي دولة مصدرة لمنتجاتها إلي الغرب. وباتت التجارة الدولية شعارها البعدالبيئي أولا ورفع الكارت الأحمر للمنتج الذي تجرد من البعد البيئي.
يبقي السؤال المطروح هل البيئة خدمة أم سلعة أم هي أصل من الأصول؟ هي في الحقيقة سلعة لأنها تؤثر علي جودة الحياة, وأصل من الأصول لأن جودتها تعني الاستدامة, وهي خدمة له شخصيتها المستقلة وتحمل جودتها البطاقة الخضراء.
يقول الخبراء: أن سرعة إقبال المستقبل علينا تتزايد بينما قدرتنا علي التفكير في تضمينات التفاعل بين الاتجاهات المختلفة تظل غير منظورة
http://www.ahram.org.eg/Economy/News/124771.aspx