الطفرة العقارية .. لعبة المصطلحات
لم أكن أتصور حجم الدفاع عما يسمى الطفرة العقارية وذلك كردة فعل على المقال السابق حول الموضوع نفسه. يبدو أننا نحب كلمة "طفرة" وكأنها الأمل المنتظر وأصبحنا بشكل متأصل نربط بينها وبين تحسن الأحوال الاقتصادية وزيادة التدفقات النقدية وإمكانية تحقيق الرفاه. هنا تبرز خطورة المصطلحات إذا أصبحت وسيلة إعلامية لتغيير سلوك المستهلك والتأثير في قراراته ومن ثم توجيه دفة الاقتصاد.
بعد الإخفاقات التي مرت بها أسواق الأسهم الخليجية على نحو غير مسبوق, فإن كل ما يحتاج إليه كبار رجال الأعمال هو إعادة توجيه المستهلكين نحو سوق أخرى أصبحوا هم ملاكها الآن ومديرو صناديقها. وكما روجوا لأسواق الأسهم بطريقة أخلت بموازينها فإنهم يقومون الآن بالترويج لسوق العقار ولكن الخلل المحتمل من هذا التدخل – في رأيي - سيصيب الاقتصاد ككل
بداية, من الضروري فهم خطورة التدخل في العملية الاقتصادية بأي وسيلة كانت، لسبب بسيط جدا أننا لا نعرف حتى الآن وبشكل قاطع نتائج أي تدخل على المدى البعيد وتجارب الأمم في ذلك ما زالت مريرة – ويكفينا ما حدث في سوق الأسهم. ومهما ادعينا أننا نعرف، فكل ما نعرفه هو بقدر ما نملكه من نور يسطع في فضاء مظلم. إن تجارب الأمم أكثر من أن تحصر وتبقى أقرب الأحداث أكثرها تأثيرا في فهمنا، فعلى الرغم من كل التقدم الذي حققه الاقتصاد الأمريكي, لا يزال غير قادر على التنبؤ بردة الفعل تجاه قوانين محددة مثل قانون سيربنس أوكسلي.
كما لا يزال أهل الاقتصاد في حيرة، كيف يمكن التنبؤ بأثر قرار يتخذه مستثمر ما أو مدير تنفيذي واحد في الهيكل الاقتصادي والسياسي العام؟ وهنا تبرز تجربة "وردكم" و"إنرون"، إنه يشبه إلى حد بعيد نظرية الفوضى حيث يمكن لجناحي فراشة في الأرجنتين أن تتسبب في إعصار في إندونيسيا إذا كانت الظروف - غير المعروفة بشكل تام – مواتية. ولكن كل هذه التجارب تشير إلى خطورة إجبار الاقتصاد على خيارات غير طبيعية أو استعجال نتائج معينة.
وهكذا نرى وباستمرار أنه من الأفضل عدم التدخل في العملية الاقتصادية سواء كان بتأثير إعلامي أو قانوني يخول للدولة أو لغيرها إعادة توجيه المسار. نحن فقط نريد من الدولة ومن خلال النظام أن تضمن مفهوم اللعبة العادلة وعدم استخدام أساليب غير مشروعة للكسب وأن تقلل تكلفة الحصول على المعلومة إلى مستوى مقبول لجميع اللاعبين وعدم استفادة الآخر من المعلومات الداخلية وغير المعلنة هذا في كل الأسواق وعلى كل السلع بلا استثناء. ولكن وفي عالم أصبحت الشركات هي القوة الفاعلة في الاقتصاد وأصبح للمديرين التنفيذيين نفوذ كبير جدا، ومن خلال سيطرتهم على القنوات الإعلامية فإن قدراتهم أصبحت أكبر من قدرة الدول على توجيه الاقتصاد والتأثير في سلوك المستهلكين، فقط من خلال اكتشاف تأثير المصطلحات في الناس. وفي هذا المقال أثير لعبة مصطلح "الطفرة العقارية" والآثار المحتملة لاستخدامه.
وبعد الإخفاقات التي مرت بها أسواق الأسهم الخليجية على نحو غير مسبوق, فإن كل ما يحتاج إليه كبار رجال الأعمال هو إعادة توجيه المستهلكين نحو سوق أخرى أصبحوا هم ملاكها الآن ومديرو صناديقها. وكما روجوا لأسواق الأسهم بطريقة أخلت بموازينها فإنهم يقومون الآن بالترويج لسوق العقار ولكن الخلل المحتمل من هذا التدخل – في رأيي - سيصيب الاقتصاد ككل. إن كلمة طفرة مرتبطة بتاريخ من النمو والاستقرار والرفاه وقد ارتبطت في ذهن الإنسان الخليجي بكل هذا، فاستخدامها سيؤثر بشكل كبير في اتجاه الناس خاصة أولئك الذين سمعوا عن هذه الطفرات ولم يعايشوها (الجيل الشاب الجديد) أو الذين عاشوها ولم يستفيدوا منها. فاستخدام كلمة طفرة يعنى بالنسبة إليهم تحقيق ما لم يسبق لهم تحقيقه. وقد بدأت بالفعل آلة الدعاية والإعلان في الترويج لعالم من العقار مزدهر وكل ما تحتاج إليه فقط هو "قرض".
إن الاقتصاد آلة جبارة تتحرك على ثلاث قوائم رئيسة, وهي: الاستهلاك, الادخار, ثم الاستثمار, وأي خلل يصيب إحدى هذه القوائم يعني عدم قدرة آلة الاقتصاد على الحركة وستقف حتما في مكان ما تحت ضغط ظرف معين قد يبدو في حينه مستغربا وقد نضطر إلى إيقاف مشروع مهم مثل التخصيص, خاصة في ظل ازدهار القطاع العام. لقد صاحب النمو في سوق الأسهم ارتفاع معدل الادخار لدى المستهلك السعودي, وهي تعد أهم نتائج تلك الفترة، ولكن وتحت ضغط آلة الدعاية والإعلان تم التوجه وبعنف نحو الاستثمار بشكل غير متوازن وغير طبيعي جعلها محور العملية الاقتصادية. ودون تناغم مع قدرتنا على الادخار ظهر اتجاه عام لدعم القدرة الاستثمارية من خلال الاقتراض وتوجهت كل القروض نحو سوق الأسهم، سوق الكبار في ذلك الحين. وبعد أن استطاع كبار المستثمرين استغلال هذا التوجه العام للخروج من السوق وبأرباح هائلة بدا لهم وكأن سوق الأسهم قد انتهت إلى غير رجعة، وهكذا وكما روجنا للأسهم فلنروج للعقار.
لا أدافع عن سوق الأسهم وإنما عن الفكر الاستثماري الذي نشأ مع سوق الأسهم وهناك من يريد هدمه. إن جزءا من مشكلة سوق الأسهم هو غياب الوعي الاستثماري وهذه مشكلة اتفق عليها الجميع ولن تحل بالذهاب إلى العقار كحل استثماري ولكن بزياد الوعي الاستثماري عن طريق رفع قدرة المجتمع على الادخار ومن ثم التوجه نحو العملية الاستثمارية التي تعد سوق المال الموجّه الحقيقي لها
لقد أصيب الاقتصاد نتيجة ذلك بعطب كبير في عمليتي الادخار والاستثمار لأن معظم من دخل سوق الأسهم كان بطريقة الاقتراض ولا يزالون هناك في انتظار نتائج قراراتهم الاستثمارية طويلة الأجل. وهكذا فإن عملية الادخار تواجه صعوبات حقيقية نظرا للأقساط الكبيرة المستحقة على المستثمرين. وبدلا من أن نسهم في تنمية العملية الاستثمارية ودعمها في سوق الأسهم حتى تعود مياه الاقتصاد إلى مجاريها, فإننا نعزز مفاهيم الاستثمار من خلال القروض – الطريق الأكثر وعورة. ولأننا بالطبع لا نملك القدرة على الادخار وليس في وسع صناع الاقتصاد الانتظار حتى تتحسن قدراتنا الادخارية فسيكون لدينا جيل من المديونين, والمصيبة ليس في هذا فحسب, بل في أن قدراتهم على الاستهلاك ستتقلص بالتالي. وهكذا, فلست على يقين من أن نتائج الاستنفار نحو دعم الاستثمار العقاري عن طريق القروض ستسهم في طفرة رفاه بل في طفرة ديون.
يقول قائل إن فكرة الاستثمار العقاري تنبع من استبدال قسط الإيجار بقسط الدين العقاري، وأن يدفع الإنسان في منزله فإن ذلك يعد استثمارا طويل الأجل وسيدعم قدراته الادخارية والاستثمارية في المستقبل ويحقق النمو للاقتصاد. أقول نعم إذا لم تكن هناك قروض أخرى أشد وطأة على دخل الفرد, وهي قروض تسدد من خلال راتب تتناقص قدرته الشرائية مع الزمن. وهذه الفكرة مقبولة إذا كان القسط الشهري للقرض العقاري يساوى أو يقل عن القسط الشهري للإيجار، أما أن يكون القسط الشهري للعقار يعادل خمسة إلى ستة أضعاف القسط الإيجاري فمن يستطيع تحمل قسط مقداره خمسة آلاف ريال لمدة تصل إلى 20 عاما؟ وهكذا فإننا أمام مشروع لهدم القدرة الادخارية والاستهلاكية للفرد ومن ثم انهيار البنية الاستثمارية بالكامل، وستجد أن ثروة الأمة تتركز شهرا بعد آخر وسنة بعد أخرى في يد فئة قليلة من الناس أهدافها غير صناعية أبدا بل ربوية بطرق شرعية, وستجد الشعب يعمل ويكد فقط لتسديد التزامات لن تنتهي.
ويقول صوت آخر إنني أنادي بإعادة التضخم إلى سوق الأسهم, كما أن هناك احتمالا بأن القدرات النقدية للفرد ستزداد مع قدرته على بيع المنتج العقاري مرة أخرى وبالتالي إعادة ضخ هذه النقدية في سوق الأسهم ومن ثم إعادة التضخم للسوق وسنشاهد الشركات الرديئة مرة أخرى فوق هام السحب.
هنا أقول إنني لا أدافع عن سوق الأسهم وإنما عن الفكر الاستثماري الذي نشأ مع سوق الأسهم وهناك من يريد هدمه. إن جزءا من مشكلة سوق الأسهم هو غياب الوعي الاستثماري وهذه مشكلة اتفق عليها الجميع ولن تحل بالذهاب إلى العقار كحل استثماري ولكن بزياد الوعي الاستثماري عن طريق رفع قدرة المجتمع على الادخار ومن ثم التوجه نحو العملية الاستثمارية التي تعد سوق المال الموجّه الحقيقي لها. كما أن إعادة بيع العقار ستواجه مشكلة الرهن, ولبيع العقار برهنه سيضطر البائع إلى التخلي عن حصة كبيرة من سعره الحقيقي, وهذا يقود إلى حدوث سوق أولية وثانوية وفجوة كبيرة في الأسعار كتلك التي حدثت في الأسهم وسترتفع أسعار العقار في السوق الأولية لمجرد إمكانية إعادة بيعه سواء كان جيدا أم لا مما يسهم في نفخ فقاعة الأصول مرة أخرى، خاصة أن البنية القانونية للسوق العقارية غير مكتملة ومنها التسعير القانوني بناء على توصية محام مرخص له. إن القضية أكبر من مجرد حصرها في مقال وردة فعل, بل مستقبل جيل كامل في أعناقنا
* نقلا عن جريدة "الإقتصادية" السعودية
** أستاذ المراجعة المساعد -جامعة الملك خالد