ممنوع قطع الكهرباء!


شافي الوسعان
٢٠١٢/١٢/١٦


يُعتَقد أنه لأسبابٍ فطرية يكره الناسُ المؤسسات التجارية، فالإنسانُ بطبعِه لا يحبُ الأشخاصَ الذين يقايضونه من أجلِ الربح، وسيتعاظمُ هذا الشعورُ إذا كانت تلك المؤسساتُ تقدِّمُ خدماتها بشكلٍ احتكاريٍ ورديءٍ ويخلو من المنافسة، أو كانت الحمايةُ التي توفرها الدولةُ للمستهلكين ليست كافية، والغريبُ أنَّ هذا الكره ليس خاصاً بالطبقاتِ المتدنيةِ، بل حتى الأغنياء يكرهون المؤسسات التجارية، فقد ذكر (جون ستوسل) أنه عندما قاومت مؤسسةُ صناعةِ الفولاذِ جهود الرئيس كندي لفرض الأسعار عام 1962، صرخ الرئيسُ -وهو ابن أحدِ أغنى الرجال في أمريكا: (أخبرني أبي على الدوام أنَّ كلَ المؤسساتِ التجاريةِ أولاد… لكنني لم أصدقه حتى هذا اليوم).

من المؤسفِ أن الناسَ العاديين هم الحلقة ُالأضعف في هذه العلاقة وهم ضحايا لتلك المؤسسات، وإذا لم تقف الدولةُ إلى صفهم بمراقبةِ الأسعارِ والخدماتِ، أو بصناعة المنافسةِ فإنَّ جشعَ المؤسسات لن ينتهي، وستزولُ مع الوقتِ الطبقةُ المتوسطةُ، تلك الطبقةُ التي تمثِّلُ ترمومتراً لقياس درجةٍ الاستقرارِ في كلِ بلد، إذ لا شيءَ تتضاءلُ أمامه أخلاقُ الإنسانِ كالمال، ولا شيء أضعف من الرقيبِ الذاتي، وإذا ما أُريدَ الوصولُ إلى درجةِ الإشباعِ التي تتوقفُ عندها تلك المؤسساتُ من امتصاصِ أموالِ الناس، فمعنى ذلك أن الجيوبَ ستُستفرغ عن آخر ريالٍ فيها، كما يُلاحظ على العقودِ التي تبرمُها المؤسساتُ التجاريةُ من بنوكٍ وشركاتٍ وغيرِها مع الناسِ أنها عقودُ إذعانٍ لا تراضي، ومُصَاغةٌ بشكلٍ يُشعرُك أن تلك المؤسسات هي من قامت بصياغتِها، إذ تُبيحُ للمؤسساتِ كلَ شيءٍ يكفلُ حقوقَها بينما تتجاهلُ حقوقَ الإنسان العادي، حتى أنها (أي المؤسسات) تفرض خدماتها على الناسِ وتقدِّمُها بالشكلِ الذي تريد، كما يمكنها الحصولُ على حقوقها بالطريقةِ التي تريد، حتى لو ترتبَ على ذلك الإخلالُ بمستحقاتِ المواطنةِ أو تعارضَ مع الضماناتِ التي يستمدها المواطنُ من الأنظمةِ العليا للدولةِ، فبالله عليكم؛ على أيِّ أساسِ تقومُ شركةُ الكهرباءِ بعمليةِ فصلِ التيارِ من تلقاءِ نفسِها ودون الحصول على حكمٍ قضائي، مع أن الضررَ سيكون متعدياً إلى آخرين ليس لهم ذنبٌ في عمليةِ السدادِ، ولا بأيديهم تغيير القدر واستبدال رب الأسرة بآخر، فالضررُ لن يكونَ مقتصراً على المتعثرِ نفسِه بل سيصيبُ الأسرةَ كلَّها بالشللِ التام وستكونُ خارجَ نطاقِ الحياة، باعتبارِ أنَّ الكهرباءَ من الخدماتِ الأساسيةِ التي يحتاجهُا الإنسانُ في هذا العصر، كما سيترتبُ على هذا الإجراءِ إتلافُ أشياءَ أخرى، في حين أنَّ الشركةَ ترتكبُ عديداً من الأخطاءِ وتقومُ بقطعِ التيارِ عن بعضِ الأحياءِ بالساعاتِ وبالأيامِ دون أن تتعرضَ لأدنى محاسبةِ، والمواطنُ حين يجدُ خطأً في الرسومِ لا يجدُ جهةً محايدةً يمكنه الاحتكامُ إليها، إنما شركة الكهرباءِ نفسها تكون هي الخصمُ والحكم! ثم إنَّه لو افترضنا أن الخطأَ كان فادحاً أو كانَ من الوضوحِ ما لا يمكنُ لشركةِ الكهرباءِ إنكارُه فغايةُ ما يمكن الحصول عليه تعديلُ الخطأ، على قاعدة: (احمد ربك)!

إنه بالقَدرِ الذي نطالبُ فيه الناسَ الوفاء بعقودِهم، لا يجوزُ لنا أن نتطرفَ في عمليةِ الحصولِ على حقوقِنا، فعمليةُ قطعِ التيارِ الكهربائي لئيمةٌ على كل حال، وليست إنسانيةً بل تتناقضُ مع أبسطِ حقوقِ الإنسانِ ومستحقاتِ المواطَنةِ، ولو كان العملُ الذي تقومُ به شركةُ الكهرباءِ مبرراً فمعنى ذلك أن الغايةَ تبررُ الوسيلة، وأننا نزدري مبدأ (ميكافيلي) بشكل نظري بينما نحن غارقون فيه بشكل عملي، فضلاً على أن ذلك لا يبدو متوائماً مع ما جاءَ في النظامِ الأساسيِّ للحكمِ من كون العقوبة شخصية، ومن أنَّ الدولةَ تكفلُ حقَ المواطنِ وأسرتِه، في حالة الطوارئ، والمرضِ، والعجزِ، والشيخوخة…

إن الشخصَ الذي لا ينتظمُ في عمليةِ السدادِ هو واحدٌ من ثلاثةٍ، إما أن يكونَ موظفاً قادراً على السداد، وفي هذه الحالة يمكن الاستيفاءُ من راتبِه مباشرةً ودون الرجوعِ إليه، عن طريقِ حكمٍ تحصلُ عليه شركةُ الكهرباء من القضاءِ أو الشرطةِ، وإما أن يكونَ غيَر موظفٍ لكنَّه قادرٌ على السداد، وفي هذه الحالة يمكن الاستيفاءُ من حسابِه الشخصي من أي بنكٍ وبنفسِ الطريقةِ السابقةِ، أو أن يكونَ غيرَ قادرٍ على السدادِ وفي هذه الحالة تتكفلُ الدولةُ بالسدادِ عنه، المهم أن (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

http://www.alsharq.net.sa/2012/12/16/627852