حتّى لا (تضيع الطّاسة) في (حوسة جدّة) ..
لا الأمناء ولا العشوائيّات سبب الكارثة .. الأمر أكبر من ذلك واسألوا الصحافة الفاسدة
إبراهيم الافندي
أسألكم كمتابعين: كمّ شمّاعة ظهرت في وسائل الإعلام ليعلّق عليها المُعلّقون أسباب كارثة طوفان جدة؟ أمينٌ سابقٌ يتحدّى، وأمينٌ يرمي على أمينٍ آخر، ومديرو دوائر سابقون ومتقاعدون، وخبراء ومختصّون ظهرت نواجذهم فجأة، والمواطنون متّهمون بأنهم جشعون مُتَعدّون وعشوائيون، وهم ألقوا بأنفسهم في اليمّ مكتوفي الأيدي وأرادوا ألا يبتلّوا بالماء، أو يطفوا على سطحه جثثاً هامدة ..
شمّاعة أخرى، هي القدر والمشيئة الإلهيّة، والفساد الذي انتشر في مدينة جدة، طبعاً لا يُقصد بالفساد هنا فساد كتابات العدل أو القضاة، حاشا لله، لا بل فساد الزناة والزواني ..
هناك مصطلح جدّواي يعبّر عن تشابك الأمور وغياب المعين الصافي لاستقاء الأفكار الجوهرية بين الأحداث المتداخلة، يقول الجدّاويّون في هكذا حالة إنّ: "الطاسة ضايعة"..
حسناً، إليكم قصّة:
قبل 15 عاماً تقريباً من الآن نشر العدد الأسبوعي لصحيفة (البلاد السعودية)، والذي كان يصدر يوم الجمعة من كل أسبوع، تقريراً موسّعاً على صفحتين كاملتين، كان التقرير يتحدّث عن أزمة التعديات على الأراضي شرق الطريق السريع (طريق الحرمين المحاذي للأحياء المنكوبة)، وتحديداً عن معارك استحواذ كانت تدور بين أمانة مدينة جدة، ومنتفعين آخرين في منطقة (الحرّازات).
بدأت الحكاية عندما قرّرت إدارة (عين العزيزية) بيع أراضيها في منطقة الحرّازات الواسعة والمنبسطة بأسعار رمزية للمواطنين دون صكوك، وإنما بحجج مبايعة تثبت شراءهم الأراضي منها.
وأنشأ مَن قاموا بشراء الأراضي بيوتا وأحواشاً على (قدّ حالهم)، وضعوا فيها أغنامهم ودوابهم وأطفالهم وسيّاراتهم أملاً في الاقتراب من نعيم المدينة.
استدلّ إقطاعيّو العقار على هذه المنطقة، وقرّروا أن يمارسوا وضع أيديهم والتحايل على القوانين والأنظمة، والاختباء خلف الواسطات والمحسوبيات والأسماء الكبيرة والرشا..شكّلوا تكتّلاً إقطاعياً يشمل المستفيدين، لضرب سكان الأراضي ومالكيها الأصليين بسلطة أمانة مدينة جدة، وبدأت حرب التعدّيات التي لا نسمع عنها في أيّ دولة من دول العالم إلاّ في السعودية.
ولأن المنطقة بلا صكوك، ولأن السلطة المطلقة لوضع اليد مفتوحة، فقد تصاعد الموقف بين الأطراف الثلاثة، وانتهى بإصدار أمر حكوميّ بكفّ يد الأمانة عن المنطقة، وعدم مضايقة الساكنين.
كان إقطاعيّو المنطقة قد شعروا بنصر كبير على الأمانة، إذّ إنّها كانت في اعتبارهم بيت الفساد الذي يبيض أموالاً، وكان لتحييد الأمانة دور في استفرادهم بما تبقى من المواطنين والمالكين، وكلّما استجمعوا قواهم المساندة، والدعم اللوجستي من المتواطئين معهم في الإمارة والمحافظة وأقسام الشرط وغيرها من القطاعات ذات العلاقة، أمعنوا في إذاقة الأمانة كأس الضعف، فبدأوا بشقّ الطرق دون تصاريح، وإدخال الكهرباء دون تصاريح، وفعلوا كلّ شيء دون تصاريح، ولم تستطع الأمانة أن تنبس ببنت شفة، كانت حرباً فاسدة بامتياز، وكنت آنذاك الصحفي المتابع والمحرر لها في صحيفة (البلاد).
أمّا لماذا ضاعت الأمانة عند الأمانة في هذا الموقف، فحي قويزة القريب جدّا، يعطي زاوية أخرى لقراءة المشهد..
إليكم قصّة أخرى:
كانت منطقة قويزة قد تشكّلت كعشوائيّة عبارة عن شريط لمنطقة شبه صناعية شرق طريق الحرمين السريع، وخلفها بُنيت بيوت متفرّقة لمهاجرين كادحين من المناطق الجنوبية السعودية، وعوالم من المتخلّفين ومخالفي الأنظمة، وبجوارها كان يُفترض أن يكون مجرى وادي أبو قوس، فرع الوادي الكبير الذي لا بُدّ أن يصبّ في أوّل احتمال، وهو شاطئ البحر الأحمر.
كان الطامعون كثيرين، واستطاع شخص مشهور أن يستقطع ما أتت به الشفاعة من أراض ٍ له من مجرى الوادي، واعتمدت كمخطط ملاصق للطريق السريع، وبدأ المواطنون في الشراء والبناء حتى اكتمل المخطط سكنياً وعمرانيّاً، ثمّ بدأت أعمال ردم أطراف الطريق، ونشأت محطة للشخص ذاته، ثمّ رُدم جزءٌ آخر، وقامت عمائر سكنية للشقق المفروشة للشخص ذاته أيضاً.
هكذا نشأ حيّ متكامل ومزدحم دون تخطيط، دون أن يكون على الخريطة عند وضع خطط المدينة، كان هناك خطأ بسيط، فقد تمّت المحسوبيات والرشا والواسطات كما تتمّ دائماً، إلاّ أن الطبيعة لم تتمّ المخطط كما ينبغي، كانت كلّ الأعمال فوق منطقة واد ٍ طبيعي.
القصّة الثانية أتت لتكتب الجزء الأخير من القصّة الأولى، فما بين الحرّازات وقويزة قصصٌ وقصص يعرفها ويعايشها الجميع منذ أكثر من عشرين عاماً في عروس البحر، التي فضّ الفساد بكارتها، وما بين الحرّازات وقويزة كانت قصة المأساة والكارثة التي عايشنا جميعاً تفاصيلها، إذ تضررت جميع المناطق التي تمرّ بالوادي، ولكن السبب ليس عشوائيّتها، وإنّما (نظاميّة الفساد) الذي أصبح شأنا جدّاويّاً عامّاً.
أين كان الأمناء المتعاقبون عن كلّ هذا؟ هؤلاء كانت لهم قصّة ثالثة: لقد كانوا مشغولين برشوة الصحفيين ...!
فقد كانت علاقة الأمانة ببعض الصحف الصادرة في جدة، علاقة شدّ وجذب ومساومة وابتزاز، حسب كلّ أمين يتولّى، وحسب كلّ رئيس تحرير تتمّ توليته، وحسب مزاج كلّ كاتب أو صحفي، ورضاه عمّا يتوسّله من حقّ يراه مشروعاً، والمخططات والمنح والمعاملات مازالت تحمل الأسماء الصريحة لكلّ الصحفيين الذي غضّوا طرفهم عن جدّة، مقابل فتات أرض في أحد الأحياء الراقيّة من المدينة، أو مقابل شراء رضا الأمين والمسؤولين جميعاً حتّى لو كان رئيس بلدية فرعيّة.
تخلّت الصحافة عن أمانة مسؤوليتها لأن المسؤولين تخلّوا عن أمانة مسؤوليّاتهم، وأصبح كلّ طرف يحترم الآخر طالما أن الآخر يخدم مصلحة الفساد، كانت الصحافة مكمّمة بالمسؤولين، وكان المسؤولون مكمّمين بالصحافة، وكان صوت الفساد ناطقاً يصرخ في أرجاء المدينة.
لو، ولو تفتح دائماً عمل الشيطان، خصوصاً هنا، لو كان في تلك الفترة هامش حرّية للصحافة لما كنّا وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن، فيكفي أنّ يوقف أيّ صحفيّ عن الكتابة في أي صحيفة آنذاك دون مساءلة، بل بخطاب ممهور بتوقيع وكيل وزارة الإعلام، بناء على توصية وزير تم تحريشه من قبل مسؤول.
لم تكن الصحافة تملك هامشها الاستقلاليّ الذي يعطيها صلاحيتها كسلطة رابعة، فأصبح المسؤول ندّاً للصحفيّ، وربما مهدّدا له، فنشأ نوع خاص من الصحفيين الذين يقلبون الحقائق لمصلحة المسؤول بدلاً من تقليب الحقائق على المسؤولين.
على أطراف هذا الوضع الطفيلي، أصبح عدد لا بأس به من الصحفيين موظفين في الأمانة، وأصبح عدد من موظفي الأمانة صحفيين، ونشأت علاقة شراكة إستراتيجية قائمة على (تضييع الطاسة) ..
القصّة الرابعة التي تحدث الآن، قصّة الصحافة والمسؤولية، خصوصاً أن مدينة جدة توافرت لها عوامل متسارعة في الآونة الأخيرة، من أمير جديد، وأمين جديد، ورؤساء تحرير جُدد، ومواطنين غاضبين، وكارثة شفعت بإصدار أمر ملكيّ ينقذ العروس من زواجها الإجباري بالفساد، فمن هنا على قصّة جديدة أن تبدأ، عنوانها أن الفساد سيتعرّى، وأنّ جدة ستتغيّر ..
القصة التي تخصّني:
بعد أن قمت بنشر الموضوع المذكور في القصة الأولى، طاردتني لجان التحقيق من كلّ حدب وصوب، رغبة في إيقاعي بأي طريقة كانت في منزلق لفظي أو إثبات خطأ أي معلومة، طالبوا بمستنداتي ومعلوماتي وتسجيلاتي وشهودي وأقاموا الدنيا أيّاماً عليّ ولم يقعدوها.
خرجت منهم سالماً ليتلقّفني ثلاثة من صغار رؤوس الاقطاعيين في المنطقة، وعرضوا عليّ لقاء خدماتي مبلغاً من المال، وتسع أراض تبرّع لي بثلاث أراض كلّ واحد منهم، مثمّنين نشر الموضوع الذي جاء في مصلحتهم بطريقة أو بأخرى.
الذي أذكره أنّ قيمة قطعة الأرض الواحدة في تلك الأيام كانت في حدود 35 ألف ريـال، وسأترك لتخمينكم ما تبقّى ..!
(إبراهيم الأفندي)
بعد إيش ياحسرة... الطاسة قد ضاعت من زمان.