جرت العادة ان نقول وبكل تفاؤل:
انا أفكر انا موجود..في ترديد لعبارة الكوجيتو الخاصه بالرياضي والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت..
والذي اعتمد مبدأ الشك ليصل الى جملة حقائق كثيرة عن الكون والحياة والمنطق متعمدا على فكرة الشك ومبدأ التفكير ذاته..
باعتبار ان الانسان هو الكائن المفكر الوحيد حاليا !!!
وعليه فكان لزاما ان نقول ونردد تلك العبارة الشهيرة ..انا افكر اذا انا موجود..باعتبار ان الوجود والكينونة المستقلة تقتضي فكرا خاصا بها يدل عليها ويعود اليها..
ومنذ ذلك الوقت والى فترة قريبة ..كنا نعلم ونؤمن بمدى صحة تلك العبارة..
وكنا نقدر ونثمن وجود الكينونة والذاتية المتفردة لكل شخص على اساس نمط التفكير والقدرة على الابداع والغوص الى اعماق جديدة من الفكر والتنور والتأمل ..
لكن الحال تبدل..وخصوصا مع بداية القرن الحادي والعشرين..ومع بزوغ النظام العالمي الجديد..والاقتصاد العالمي ذو القطب الوحيد..فتبدل الشعار واختلف الحال..
واصبح التقييم للذات الانسانية والكينونة البشرية المتفردة معتمدا على الاشياء والممتلكات والمقتنيات..
واصبح المعيار الفعلي للتقييم هو كمية ما تملك من ادوات وومقتنيات عصرية لا اكثر..
وتراجع الفكر الى الخلف كعامل ثانوي لتقييم اهمية الفرد في هذا العصر..
فانت عندما تملك وتقتني وتشتري ..اي عندما تستهلك ..فانت موجود..وتصبح محور الاهتمام..
محور اهتمام الصناع والتجار والمصرفيين...
واصبح الوجود يعمتد على القدرة على الاستهلاك والاقتناء..وهكذا تولدت لدينا ثقافة الاستهلاك الجشعة والمرضية لحد الجنون..
لابد ان تشتري وتشتري حتى لو لم تكن بحاجة ..فقد اصبح التسوق هوسا ومتلازمة لانسان القرن الحادي والعشرين..
لابد ان تنفق وتستهلك كي تضمن بقاءك متقدما على اقرانك وكي تظل متمتعا برفاهية مؤقته سرعان ما تزول..
انها فكرة النظام العالمي الجديد ..والاقتصاد العالمي الجديد..انه يركز ويعتمد على مافي جيبك..
لابد من استنزافك بشكل مباشر وغير مباشر..لابد ان تخدم اهداف ارباب الصناعة والتجارة ..
وتراجعت القيمة الخاصة بالكينونة الفردية الذاتية ..لتحل محلها قيمة المقتنيات والادوات التي توجد لديك..
في الاعلام والدعاية..نجد المحفزات والاغراءات والتي تؤكد على اهميتك كمتسوق ومشتري للمادة والمنتج..وانك ستكون متاخرا عن عصرك واقرانك ان لم تمتكلها وتقنينها..
ونجد ان الاغراءات والمحفزات الجنسية الى جانب الشعارات الحديثة توجد الى جانب المنتج المراد تسويقه بغية التاثير عليك وجذبك رغما عنك كي تقتني تلك السلعة..
حتى انهم ادخلوا بعض القيم الانسانية في تلك الحملات الدعائية بغية التاثير والجذب.فاصبحت معاني الرجولة والحضارة والتقدم والوعي مرتبطة بالمنتج لااكثر..وعليك الحصول عليه كي تضمن بقاءك في دائرة الضوء..
المراد من هذا كله ..تعطيل الفكر الحر ..وتحفيز الفكر التسوقي الاستهلاكي..لتظل بحاجة اليهم الى منتجاتهم..وليستفيدوا منك ومن غيرك وتظل عجلة الانتاج مستمرة ..
انها ثقافة الاستهلاك ..التى حلت محل ثقافة الانتاج والابداع..وقد نجحوا في ذلك..بل وتسربت تلك الثقافة الينا والى لا وعينا ..
فاصبحنا نقيم بعضنا البعض على اساس ما نملك وما نقتني وما يوجد لدينا من مال في ارصدتنا البنكية..
واصبح التقييم الاجتماعي معتمدا على المظهر الخارجي الذي هو في الاساس يستمد قوته من الممتلكات والمقتنيات..وتراجع الفكر واضمحلت الثقافة لتحتل مراتب متاخرة من سلم التقييم...
ولهذا نجد ان الكثيرين يتهافتون لتغيير مالديهم كل سنة مجاراة للموضة ..ونجدهم يبذلون الغالي والنفيس كي يحصلوا على آخر الصرعات ..
واصبحت ثقافة المتابعة ..مرتبطة بمتابعة الجديد ..من اجل المزيد من الاستهلاك..
انهم يريدونك ان تخدم النظام الصناعي والانتاجي..ان تظل مستهلكا ..محتاجا الى منتجاتهم..وان تستمر في عملية التسوق والشراء لحاجة او لغيرها..
صحيح ان هناك بعض المقتنيات تعتبر ضرروية ولازمة ومهمة لممارسة حياتنا وانشطتنا اليومية..لكن الغرض يتعدى ذلك ..
انهم يريدونك ان تظل في مقارنة مع غيرك..وان تحاول ان تكون الافضل دائما باقتنائك للجديد والحديث والمطور فور وصوله الى الاسواق..
انها مرحلة اغتراب كما اشار اليها الكثير من النقاد وعلى راسهم اريك فروم..
مرحلة اغتراب الذات التي فقدت كيونتها وماهيتها..واخذت تحاول التعويض عن طريق ممارسة الشراء والامتلاك بغية ايجاد هوية جديدة ..
ان الهوية المميزة لكائن البشري هي في الفكر والابداع ..لكن ما يحدث اليوم ..ان فكرك وثقافتك لا قيمة لها ..لابد ان تخدم النظام بالاستهلاك..وبدونه سوف تفنى وتنقرض..
وبقدر ما تستهلك بقدر ما تتواجد وتكون...
واصبح الشعار ..انت تستهلك =انت موجود...وتحية لاوراق البنكنوت التي في جيبك..فهي معيار التقييم حاليا..
الى اللقاء..
illuminati