كنتُ واحداً من بضعة آلاف احتشدوا في صالة المغادرة بمطار الملك عبدالعزيز الدولي بمدينة جدة مساء الجمعة الماضية بعد فراغنا من أداء مناسك الحج استعداداً لاستقلال الطائرات التي ستعيد كلاً منا إلى وجهته التي قدم منها. وحيث إن الخطوط السعودية تتمتع بقدر كبير من الاحترافية والنظام واحترام عملائها، وبما أنها المرة الأولى التي تتعرض فيها لظروف خارجة عن إرادتها اضطرتها إلى تأخير عدد قليل جداً من رحلاتها لدقائق معدودة، فقد أعدت خطة مُحْكمة لمواجهة تلك الظروف، تمثلت في اتخاذ جُمْلة من الخطوات التي من شأنها توفير سبل الراحة للمسافرين وحفظ حقوقهم، وتمثلت تلك الخطوات في بعض مما يأتي:

أولاً: وُجِد في صالة السفر عدد كبير من موظفي السعودية الذين تولوا عملية الترحيب بالمسافرين وأخذهم إلى أماكن مخصصة لراحتهم حيث يتوافر مقاعد وثيرة للجميع، وخصوصا كبار السن والنساء ومَنْ يعانون مشاكل صحية.

ثانياً: تولى أولئك الموظفون تقديم كميات كبيرة من وجبات الطعام والمشروبات الساخنة والباردة للمسافرين بكل بشاشة وأريحية ورحابة صدر.

ثالثاً: وُجِد في الصالة طبيب مع فريق تمريضي متكامل للتعامل مع بعض الحالات الطارئة لبعض المسافرين كانخفاض وارتفاع السكر في الدم أو أزمات الربو وارتفاع الضغط وغيرها.

وفي ظل هذا الوضع المثالي الجميل فوجئنا جميعاً بقدوم معالي الأستاذ خالد الملحم، المدير العام للخطوط السعودية، وبمعيته ثلة من كبار التنفيذيين بمحطة جدة، وما إن أطلوا علينا حتى أشفقنا عليهم من حالة الحرج والخجل التي ظهروا بها، وقد ابتدرنا معاليه مصافحاً كل مَنْ في الصالة فرداً فرداً، فيما اكتفى بتحية النساء مشافهة دونما مصافحة – كما هي العادات والتقاليد – وبعد فراغ معاليه من مصافحة كل المسافرين الرجال وتقديم التحية للنساء ناوله أحد موظفي العلاقات العامة جهاز تكبير الصوت؛ فوقف معاليه أمامنا وتحدّث بكل خجل واحترام، وبدا على صوته حزنٌ عميقٌ وأسى كبير، وخطب فينا معتذراً عما بدر من خطأ خارج عن الإرادة، ثم قال: أودّ أن أعتذر للجميع، مؤكداً لكم أنكم محل عنايتنا واهتمامنا، وأعترف بأنني وزملائي مقصرون في حقكم؛ ولذلك فقد قررنا اتخاذ خطوات عدة نعتقد أن من واجبنا اتخاذها، ومنها:

نعلن عدم قدرتنا على تقديم خدمة تليق بمكانة وسمعة هذه المؤسسة العملاقة؛ لذلك فقد قررت أنا والمجموعة التي ترافقني تقديم استقالتنا، ونأمل من صاحب القرار قبولها، ثم إننا وإيماناً منا بمقدار الضرر الذي لحق بكل فرد منكم فقد رفعنا توصية لمجلس الإدارة بمنح كل مسافر من هؤلاء الموجودين الآن تذكرة سفر لرحلة حول العالم؛ علّ ذلك يخفف من آثار الضرر الذي لحق بالجميع، كما أننا على استعداد لتقبُّل أي قرار تتخذه جهة الاختصاص بحقنا؛ فنحن نعترف بتقصيرنا، ونأمل من الجميع العفو والمسامحة!!!!

كل ذلك "الحُلْم الجميل" عشته فجر السبت الماضي وأنا أفترش السيراميك الذي يغطي أحد ممرات صالة السفر بمطار الملك عبدالعزيز بجدة، وحولي أعداد كبيرة من البشر الذين اكتظت بهم تلك الصالة، نساء ورجالاً شيوخاً وعجائز وأطفالاً ومرضى من مختلف الجنسيات والمناطق، أنهوا للتو رحلة الحج، وعادوا إلى المطار ليرمي بهم حظهم التعيس في أيدي أشخاص لا يملكون الحد الأدنى من المسؤولية؛ ليمضوا الساعات الطوال في جو مشحون بالتوتر والإهانات والصراخ والفوضى العارمة التي وصلت إلى حد العراك في حالات عدة، في ظل غياب أمني، وكاد الأمر يتطور إلى ما لا تُحمد عقباه، ولكنّ اللهَ سلّم؛ ليواجه الجميع الشعار الأبدي الذي يرفعه القائمون على الخطوط الجوية العربية السعودية - مع الأسف - وهو: "نعتز بإهانتكم".

د. عبدالرحمن العبدالقادر
Abdul_sa@yahoo.com