أحياناً يتملكك الحقد تجاه منظمة الصحة العالمية، وتعتبرها كياناً شريراً آخر. مثل مجلس الأمن، والبنك الدولي، وسواها من المنظمات المكرسة لخدمة «أجندات خفيّة» ما.
لنتبنَّ نظرية المؤامرة بكل إخلاص هنا. من حق أحدنا على الأقل أن ينظر للمعطيات بعين الريبة. فلنتأمل بالذات في الأوبئة التي واظبت وسائل الإعلام على إزعاجنا بتفاصيلها ليل نهار.
كانت هناك الحمى القلاعية، وحمى الوادي المتصدع، وأنفلونزا الطيور، وجنون البقر، ومرض «الفم والحافر» أيضاً.. بدون أن ننسى فيروسات (سارس) و(إيبولا) والحمى المالطية. هذه الأدواء المرعبة ذات الأسماء المضحكة.. ما فعل الله بها؟ لماذا »قررت» أن تختفي بغتة؟ أم إن الحكومات قد استأصلت شأفتها؟ لماذا إذاً لم تُقم الاحتفالات والمهرجانات بما يتناسب ونجاة البشرية من تلك الكوابيس التي كادت تمحوها؟ أليس هذه هي الفكرة التي أبقتها عناوين الأخبار حيّة في عقولنا.. على الأقل حتى انفض مولد كل من تلك الأوبئة؟
أنا لا أتحدى الأقدار هنا – والعياذ بالله – لكني أتساءل وحسب عن الكيفية التي انسحبت بها كل تلك الأمراض، واحداً تلو الآخر، عن واجهات العناوين بعدما كانت مستنفرة للحكومات ولأعصاب الناس حين سارعوا لشراء الكمامات وأقراص فيتامين «سي» الفوّارة!
حين تسأل «خبيراً» في الصحة، فإنه سيبرر لك حالة الهلع من (أنفلونزا الخنازير) هذه بكون فيروسها جديداً على نظام مناعتنا البشري، ما يزيد من فرص انهزام أجسادنا أمامه وفرص استشراء عدواه كذلك. وهذا كلام مفهوم وعلمي.. لكن أليست هذه هي الحال مع كل أشكال الأنفلونزا الأخرى؟ أليس هذا هو السبب في عدم »اختراع» لقاح قاضٍ على الفيروس.. الذي يزورنا متجدداً كل شتاء؟
هاكم الرعب الحقيقي: الأنفلونزا «العاديّة» تقتل كل سنة 36 ألف إنسان في أمريكا وحدها! ويصل هذا العدد لنحو مئتي ألف ضحية حول العالم. هذه المجزرة تتكرر كل سنة في موسم فرحنا بالمطر و«البَراد».. قارنوا هذا بـ «رعب الخنازير»، الذي أحصت منظمة الصحة العالمية الحاملين لفيروسه بالكرة الأرضية كلها، فوجدتهم –حتى صباح الجمعة- 331 نفراً.. مات منهم عشرة أشخاص! عشر جنازات لن تشبع وسائل الإعلام فيها من اللطم!
والآن فلنضع نظريتنا المؤامراتية على الطاولة. أول ما سنلاحظه أن أوبئة «اللطميات» هذه معظمها مرتبط بثروتنا الحيوانية. وهذه ملاحظة متسقة هي الأخرى مع الإطار العلمي للأحداث، لكن الميكانيكية التي تنتشر بها هذه الجوائح، وأنماط تفاعل الأسواق معها تثير الاهتمام أيضاً. لماذا بدأت أنفلونزا الطيور من الصين بالذات؟ وفي عز استعدادها لاستضافة الأولمبياد.. صدفة؟ لماذا ظهرت أنفلونزا الخنازير في المكسيك.. لتضرب فوراً صناعة اللحوم بأمريكا والتي كانت الأقل تأثراً – حتى تاريخه – بالأزمة الاقتصادية؟!
بحسب أخبار الأسبوع الماضي، فإن المخاوف من انتشار المرض نزلت بأسعار النفط إلى ما دون الخمسين دولاراً للبرميل، وقادت مؤشرات البورصات إلى الهبوط في دبي وأبوظبي والسعودية ومسقط. أما الأسواق الأوروبية والأمريكية فانخفضت خصوصاً مع هبوط أسهم شركات الطيران والمجموعات السياحية.. فيما ارتفعت أسهم شركات الأدوية! وهذه المعلومة الأخيرة تستحق أن نتوقف عندها مطولاً. وحدها شركات الأدوية تكسب وترتفع أسهمها في ظل الوباء. وهذا تضارب شنيع في المصالح. كما أنه يعزز من نظرتنا الغارقة في الشك، ولاسيما هناك من يؤكد لك أن هذا الداء هو ذو أصل اصطناعي!
حين انتشر رعب (سارس) قبل سنوات قليلة، تسربت أخبار بوجود لقاحه لدى أحد مصنعي الأدوية الكبار، لكن هذا اللقاح لم يُطرح لخلافات حول سياسة التسويق وحقوق الملكية! في أفريقيا يصاب الملايين بالإيدز كل سنة.. لأن شركات الأدوية ترفض أن تبيع منتجاتها هناك بأسعار مخفّضة. والآن، فإن «المطّلعين» يستبعدون توفر مضاد لأنفلونزا الخنازير قبل سبتمبر.. بداية موسم الأنفلونزا الحقيقي!
المسألة كلها «تفوح منها رائحة السمك».. كما يقول الأمريكان. وإذا كان هؤلاء يرتعدون فرقاً لأنه ليس بينهم وبين المكسيك إلا النهر، فلماذا نعبأ نحن؟ هل صحتنا غالية علينا لهذا الحد؟ بغتة توقف العرب عن استيراد لحوم الخنزير.. جميل جداً، أثابكم الله. كل هذا لأن 10 ماتوا؟ كم مئة ألف تقتل السجائر و(الجراك) في داخل بلادنا؟ ليس بيننا وبين أفريقيا إلا البحر، و(الملاريا) هناك وباء ماحق. لماذا لا نسمع عن الملاريا في أخبارنا كل ساعتين؟ لماذا لا تزعجنا الفضائيات بأخبار كوليسترول الدم؟ والسكري وسرطان الرئة؟ كم «مريضاً نفسياً» ينتحر كل أسبوع بين ظهرانينا؟
أحياناً يتملكك الحقد على منظمة الصحة العالمية، ومصنعي الأدوية ومذيعات الأخبار. تتأمل المشهد العالمي العجيب من حولك.. وتسأل الله السلامة في الأبدان والبصائر.