أ.د. هشام صادق
دون الدخول في الخلاف الفقهي السائد حول تعريف المستهلك الذي تهدف التشريعات الحديثة إلى حمايته؛ فإنه يمكن القول بصفة عامة بأن المستهلك هو الشخص الذي يتعاقد من أجل الحصول على ما يلزمه من سلع وخدمات لاستخدامها في غير مجال نشاطه المهني؛ أي لاستخدامها في مجال منبتّ الصلة عن هذا النشاط.
وهذا هو التعريف الذي اعتمدته المادة 5/1 من اتفاقية روما لسنة 1980 في شأن القانون الواجب التطبيق على العقود الدولية التي نصت على أن تنطبق هذه الاتفاقية على العقود الدولية المبرمة لغرض توريد قيم مادية منقولة أو خدمات إلى شخص (المستهلك) لاستخدام يعتبر غريبا عن نشاطه المهني.
ويركز هذا التعريف على الغرض من التصرف؛ فإذا كان هذا الغرض بعيدا عن النشاط المهني للشخص، مثل التصرفات التي يجريها لإشباع حاجاته اليومية أو حاجات أسرته؛ فإنه يحوز صفة المستهلك، بخلاف ما إذا كان الغرض من التصرف يتعلق ولو من بعيد بنشاط الشخص المهني؛ حيث لا يعد في هذه الحالة مستهلكا جديرا بالحماية، ولو اتسم مركزه الاقتصادي بالضعف.
وقد اعتمدت محكمة العدل الأوربية هذا التعريف للمستهلك النهائي الخاص -على حد تعبيرها- والذي يشترط لتمتعه بقواعد الحماية أن يكون تصرفه لغرض مستقل تماما عن حاجات نشاطه التجاري أو المهني.
وعلى هذا النحو يعد عقد شراء طبيب لسيارة خاصة لاستخدامها في أغراضه الشخصية والأسرية من عقود الاستهلاك الجديرة بالحماية، بينما لا يعد هذا الطبيب نفسه مستهلكا فيما لو كان الغرض من شراء السيارة يتعلق بنشاطه المهني مثل زيارة مرضاه ومتابعة حالتهم في المستشفيات.
وتتضمن التشريعات الحديثة قواعد خاصة لحماية المستهلك بهذا المعنى، بوصفة الطرف الضعيف في العلاقة بينه وبين البائع المحترف، وسواء تم التعاقد بين الطرفين بالطرق التقليدية أو من خلال شبكات الاتصال الإلكترونية.
وتتلخص حقوق المستهلك كما أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 248/39 الصادر في 9 إبريل 1985 في الحقوق الآتية:
1 - الحق في السلامة؛ أي الحق في الحماية ضد المنتجات والخدمات الضارة بالصحة أو الحياة.
2 - الحق في إشباع احتياجاته الأساسية؛ أي الحق في الحصول على السلع والخدمات الضرورية، وهي الغذاء والكساء والمأوى والعناية الصحية والتعليم.
3 - الحق في بيئة صحية؛ أي الحق في أن يعيش ويعمل في بيئة لا تهدد سعادة الأجيال في الحاضر أو المستقبل.
4 - الحق في التعليم أو التثقيف؛ أي حقه في اكتساب المعرفة والمهارة التي تمكنه من الخيار الواعي للسلع والخدمات في ظل إدراكه للحقوق والمسئوليات الأساسية للمستهلك، وكيفية التصرف في ضوئها.
5 - الحق في أن يُستمع إليه؛ أي الحق في عرض مصالحه عند تنفيذ السياسات الحكومية لتطوير المنتجات والخدمات.
6 - الحق في الاختيار؛ أي الحق في أن يكون قادرا على الاختيار في مجال المنتجات والخدمات المقدمة بأسعار تنافسية مع تأمين درجة الجودة الكافية.
7 - الحق في إعطائه المعلومات اللازمة التي تمكنه من أن يبني اختياره على أسس صحيحة، والتي توفر له الحماية ضد الغش والخداع في الإعلان، ووضع البيانات الإيضاحية على بطاقات العبوات.
8 - الحق في الإنصاف أو التعويض؛ أي الحق في الحصول على تسوية عادلة لشكواه بما في ذلك تعويضه عن الأضرار التي لحقت به من السلع الرديئة أو الخدمات غير الكافية.
ونود أن نشير إلى أهمية الحق المقرر في الفقرة رقم (7) من الحقوق التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة له من أهمية خاصة في عصر العولمة الذي نعيشه، وهو الحق في إعطاء المستهلك الحقائق اللازمة التي تمكنه من أن يمارس حقه الجوهري في الاختيار على أسس صحيحة.
ذلك أنه من غير المتصور أن يمارس المستهلك حقه في اختيار السلعة أو الخدمة المعروضة عليه ضمن سلع وخدمات أخرى إلا لو تضمنت بطاقات عبوات السلع -على سبيل المثال- الحقائق اللازمة التي تمكنه من أن يبني اختياره على أسس صحيحة. وتبدو أهمية هذا الحق بصفة خاصة في ظل ظروف العولمة التي قد يصعب فيها على المستهلك أن يمارس حقه في الاختيار لدعم الصناعة الوطنية.
الحق في دعم الصناعة الوطنية
وإذا كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أقرت للمستهلك حق الاختيار بين السلع والخدمات المطروحة عليه بأسعار تنافسية؛ فإنها لم تقيد هذا الحق بأي قيود سياسية. ويترتب على ذلك أنه يجوز للمستهلك بداهة أن يختار -على سبيل المثال- السلع الوطنية تدعيما لاقتصاد الدولة التي ينتمي إليها.
وهذا هو مسلك المستهلك الواعي في الدول الآخذة في النمو بصفة خاصة، والتي تواجه تحديات غير مسبوقة في عصر العولمة الذي تمارس فيه الدول الصناعية الكبرى -وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية- كافة صور القهر السياسي والاقتصادي، وربما العسكري أيضا؛ لفرض إرادتها على الشعوب الفقيرة.
وإذا كانت الأنظمة الحاكمة لهذه الدول قد اضطرت لأسباب سياسية واقتصادية للخضوع لإرادة الطرف الأقوى، وارتبطت على هذا النحو باتفاقيات دولية متعددة تلزمها بفتح أسواقها للمنتجات والاستثمارات الأجنبية باسم حرية التجارة العالمية، وانتقال رؤوس الأموال دون قيود، فإن من حق شعوب الدول النامية مع ذلك أن تخفف من حدة هذا التوجه من خلال استخدام مواطنيها لحقهم في الاختيار الذي تقره لهم المواثيق الدولية ذاتها باعتباره من حقوق الإنسان.
وبهذه المثابة يملك المستهلك من مواطني الدول النامية أن يمارس حقه في الاختيار تدعيما للصناعات والمنتجات الوطنية التي تخاذلت حكومات هذه الدول عن دعمها لأسباب سياسية واقتصادية.
وممارسة المستهلك لحقه في اختيار منتجاته الوطنية على هذا النحو لا يتعارض مع التزام دولته بفتح أسواقها أمام المنتجات الأجنبية دون تمييز ضد هذه الأخيرة؛ لأن هذا الالتزام الأخير لا يتعارض قانونا مع حق المستهلك في الاختيار.
وهكذا تستطيع الشعوب المقهورة أن تصحح أوضاعا مؤسفة تورطت فيها حكوماتها تحت ضغوط سياسية متنوعة.
بل إن هذه الشعوب قد تملك ما هو أكثر من ذلك؛ فهي تستطيع -باسم حق الاختيار الذي يملكه المستهلك- أن تمارس حقها في المقاطعة الاقتصادية لبعض السلع والمنتجات الأجنبية، بوصفه وسيلة من أهم وسائل الدفاع الشرعي عن النفس في مواجهة التحديات السياسية.
الحق في المقاطعة
ولعل خير مثال لهذا الوضع هو اللجان الشعبية التي شكلت في بعض الدول العربية بعد انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000 لمقاطعة البضائع الإسرائيلية وبعض المنتجات الأمريكية كوسيلة سياسية للضغط الاقتصادي إزاء الاعتداءات الإسرائيلية الشرسة على الشعب الفلسطيني الذي يمارس حقه المشروع في تحرير أرضه المحتلة.
وهذه الاعتداءات الإسرائيلية تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية التي تخلط خلطا متعمدا بين حق الشعوب في تقرير مصيرها بوصفه حقا من حقوق الإنسان يخول لهذه الشعوب -وفقا لقرارات الأمم المتحدة- أن تمارس العنف في مواجهة الاحتلال، وبين ما أسمته الإدارة الأمريكية بالإرهاب، وهو العنف السياسي الذي لا يتعلق بتحرير الأرض.
فإذا كانت قواعد القانون الدولي تنبذ العنف السياسي الذي يشكل إرهابا؛ فهي تبارك العنف الذي تمارسه الشعوب لتحرير أراضيها بوصفه نوعا من الدفاع الشرعي عن النفس.
ومع ذلك تصر الولايات المتحدة على قلب الأوضاع في محاولة سافرة لتغيير القواعد الدولية المستقرة؛ فتصف العمليات الاستشهادية التي اضطر إليها الفلسطينيون للدفاع عن أراضيهم بالإرهاب، بينما تبارك الإرهاب الإسرائيلي في مواجهة النساء والأطفال باعتباره دفاعا شرعيا عن النفس!!.
وإزاء هذا المسلك المؤسف لزعيمة "العالم الحر"، الذي تقف الحكومات العربية إزاءه موقف العاجز عن التحرك على الصعيدين السياسي والاقتصادي؛ فإن من حق شعوب المنطقة والحال كذلك أن تواجه هذا المسلك بما تملكه من أسلحة سياسية واقتصادية، ومن بينها لا شك سلاح المقاطعة الذي يملك المستهلكون استخدامه، بعيدا عن القيود الدولية المفروضة على حكوماتهم؛ استعمالا لحقهم المشروع في الاختيار على النحو الذي أقرته قواعد الأمم المتحدة لحماية المستهلك.
وبعيدا عن الوسائل التي يتعين اتباعها عند تنفيذ إجراءات المقاطعة الشعبية التي يتعين دراستها على نحو لا يضر باقتصاديات الدولة؛ وهو ما قد يقتضي أن تكون مقاطعة المنتجات الأمريكية بصفة خاصة ذات طابع جزئي وانتقائي ومتدرج؛ فإن تنفيذ هذه السياسة الشعبية -عملا بحق المستهلك في الاختيار- يقتضي بالضرورة تمكين هذا الأخير من العلم ببعض الحقائق والمعلومات التي تمكنه من ممارسة هذا الحق المشروع في عصر العولمة.